تضامن

تضامن

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

كأس شاي..الربيع ولد ادوم - لشبونه



خلصت للتو من اكتشاف لشبونة.. النساء هنا اكثر عريا من افريقيا والجزيرة العربية واكثر صراحة.. كل شيئ اقل تسترا حتى الساندويتشات التي تدلي عليها من جلابيبها في نواكشوط، تكشف هنا اجسادها لتبعث بمزيد من الشهوة للغرائز البشرية.. الورقة التي تغطي ساندويتش في لشبونة قصيرة كانها فستان عارضة أزياء بالكاد يصل منتصف الفخذين.. ياله من فجور..
كنت اصعد الدرج للخروج من محطة ميترو "مركز بونبال" وسط لشبونه، خالجني شعور قادم من التاريخ بان عربا مروا من هنا ذات يوم وتركوا بصمات رغم الهزيمة والرحيل..

"مركز" هي كلمة عربية في الصميم، وهي مثل كلمات كثيرة دخلت القاموس البرتغالي.. إنها كلمات لا تحتاج بحث المؤرخين، بل هي شواهد على ان التلاحم الثقافي يتحدى حرب الأديان والحضارات.
كنت في طريقي للقاء صديق.. كان علي ان امر بثلاث خطوط ميترو من الخطوط الاربعة التي تعتبر تحفة لشبونة وشريان حياتها تحت الارض..
خيل الي لشهرين انني الموريتاني الوحيد الذي يقيم في لشبونه..
 البرتغال لا تعرف الموريتانيين ولا يعرفونها كما يقول صديقي جورج الذي يعمل في حديقة عامة، ربما مر التجار من هنا.. او مر من هنا موريتانيون في اقامات قصيرة لسبب ما، اغلبه مؤتمرات وزيارات سريعة، لكن الموريتاني غير معروف في هذه الارض..
قبل ان تبلغني "نايلا ساباييلا" الناشطة الاجتماعية والخبيرة في حوار الاديان ان موريتانيا شابا كان يدرس بجامعة تونس يقيم في لشبونه منذ اندلاع ثورة الربيع العربي، لقد هرب بعد تدهور الاحوال الامنية في تونس خلال تظاهرات الشباب للاطاحة بنظام بن علي، واقام في لشبونه مؤكدا ان الرئيس الموريتاني يقود البلد الى كارثة، وانه يعاني مشاكل في موريتانيا تمنعه من العودة لوطنه.
كان ان تحدد موعد بعد اتصالات هاتفية سرعان ما انتقلت الى موقع التفاعل الاجتماعي فيسبوك.. كان الشاب يتكلم باللهجة التونسية في صفاء روح، وكان جريئا في طرح المواضيع الجنسية.. حتى شعرت بغربة الحديث حين كنا نناقش وضع البلاد.
-          لماذا لا تتكلم باللهجة الموريتانية..
-          هذا عامي الثالث منذ تركت موريتانيا وانقطعت عنها.. لا اتكلم تقريبا غير اللهجة التونسية والبرتغالية؟ الواحد يفقد قاموسه بعد ان يسافر..
-          لكن الوفاء نعمة لا يستهان بها..
-          حقا لكننا لا نختار الغربة.. وقلوبنا مطمئنة بحب الوطن
-          هل تشرب الشاي الموريتاني..
-          نعم.. وعندي مواعين..
-          اذن حضر مواعينك انا في الطريق..
بدى الشاب بسمار بشرة هادئ وأناقة مريحة، واحتضنني كانه يعانق صديق من ايام الدراسة.
وفي بيته الذي بدى نظيفا، وفي صالة مريحة الالوان، عند البراد الوسطاني قال لي:
-          لقد زرت موريتانيا ايام ولد الطايع.. انا غيني الجنسية، لكن لي صداقات ولعائلتي، امتدت لموريتانيا، لذلك عشت فيها من عام 2000 وحتى 2005 عندما افسد اعلي ولد محمد فال كل شيئ.. كنا نعيش رحمة ايام ولد الطايع، وعندما تتذكر "الشباب البطاشة" فانك اكيد ستذكرني.. لقد كنت هناك مع اولاد "البطارين" نسهر في تفرغ زينة ونقود السيارات بسرعة ونعطي للبوليس 200 اوقية، وعرفت مخابئ الفرح.
-          لم يكن لي اهتمام كبير بشلة المنحرفين، في هذه الفترة بالتحديد كنت مشغولا بالدراسة في الجامعية.. تقريبا كنت ابيع الملابس المستعملة لكي اكمل المتريز، كما انني كنت مدرس تربية اسلامية.. اكيد لم اكن اعرف منحرفين.
-          ضحك كثيرا.. من كلامي.. وقال في عزاء:
-          الدراسة نعمة وقد اكتشفت انني يجب ان انتبه لحياتي فذاكرت للباكلوريا ونلتها وسجلت في الجامعة بتونس.
-          وهل تقدمت في الدراسة
-          ليس تماما ولكن الأمور تسير بخير.. اعمل هنا في مؤسسة لرعاية الكبار، وخطبت مؤخرا فتاة برتغالية.. لكنني احن الى عرس من اعراس نواكشوط.. لكن لا اعرف ما اذا كان الناس في ايام عزيز مستعدون للفرح كما كانوا في ايام معاوية.. العرس جزء من القضية السياسية وملمح من ملامح الحالة العامة.
-          صدقت.. الفرح قضية سياسية.. لكن يظل في الدنيا مكان للفرح.
تاملته كثيرا وهو يصنع الشاي بخبرة صناع الشاي في محطة كلينيك.. ودققت في الكؤوس، انها متعودة على الشاي وليست مجرد كؤوس ترفيهيه، لعل الرجل يشرب الشاي في اليوم اكثر من مرة.
وشرد خاطري، تذكرت بحنين صديقي احمد، في قهوة تونس، رغم مواقفه السياسية التي تختلف كثيرا عن تصورنا للبلد، فان صدقه وثقافته الواسعة، ربطاني به كثيرا.. اجمل ما في احمد انه رجل يستطيع ان يتكلم.. ويستطيع ان يستمع.. انه مثقف موريتاني يقرأ اكثر مما يكتب، كما تذكرت صديقي مختار الذي حول مكتبه الصحفي الى معبد للشاي، لا تتوقف الكوس عن الرنين الا عندما يأوي لنومه، فقد بات الشاي ملهمه في كتابة اجمل التحليلات التي ينتظرها قراؤه من المحيط الى الخليج.
انتبهت من الذكريات عندما طلب مني الشاب الالتحاق به في المطبخ لينظف المواعين.. قال لي وأصابعه المدربة تداعب الكؤوس التي غمرتها المياه.
-          لي قصة طويلة مع الشاي الموريتاني، وصديقتي ايضا باتت تحبه.
قاطعته في لطف مغيرا الموضوع:
-          لكن لماذا قلت انك موريتاني..
-          بلادي فيها مشاكل لكن موريتانيا اكثر قبولا في العالم لان شعبها مسالم وصادق، ولانني أسمر البشرة، وجدت ان العبودية ميدان خصب خاصة قبل اعتقال بيرام، وعندما كان النضال في أوجه، لقد كان الحقوقيون يتحدثون عن وجود 500 الف من العبيد في موريتانيا فاستثمرت في الموضوع، وطلبت من الحكومة البرتغالية توفير الحماية لي من اجل تحريري من الاستعباد لانني هربت من العبودية وقررت الدراسة في تونس لأحرر مزيدا من العبيد ولكن الأحوال تدهورت هناك وعندما وصلت لشبونه قلت بأنه ليس بحوزتي جواز سفري الموريتاني..
وعندما سألوني في التحقيق عن بعض القضايا التي تتعلق بموريتانيا وبعض أسماء الشوارع كنت فعلا اعرف انه لا توجد شوارع في موريتانيا لها اسماء، بمعنى ان كل شارع له اسم، وان كانت هنالك شوارع كبيرة كشارع جمال عبد الناصر وشارع الملك فيصل وشارع شارل ديغول.. ولكن هذه الأسماء نفسها غير مستعملة والبريد في موريتانيا لا يبعث الرسائل للناس في منازلهم بل يتصل عليهم هاتفيا لانه لا عناوين ولا أرقام للبيوت في العاصمة، احرى مدن الداخل، وكنت قرأت أيضا ان النظام سحب أسماء القذافي وزين العابدين بعد قيام ثورات ضدهم.
ولكن التحقيق طال في قضيتي لانهم رغم كل شيئ اعتقدوا انني لست موريتانيا، ونقلوني الى إقامة على حساب الدولة في مرحلة تحقيق مطول مدتها ثلاث شهور، وعندها عانيت من فراغ أكبر..
وكنت احتفظ في حقيبتي بعدة شاي جلبتها من موريتانيا وكنت اتفاخر بها في تونس فركنت الى كؤوس الشاي في اوقات الفراغ، فأحسنت انتظار البراد على النار وصنع رغوة الشاي وتناسب السكر مع تحلل الشاي في الماء الساخن، ووضع النعناع بعد تخفيف بخار البراد حتى لا يحترق.. النعناع هنا يختلف لكن النكهة ليست متباعدة في النهاية.
وذات مساء طلب مني "الفيجيلانت" ان اصب له كأسا في ليلة ممطرة، وعندما انتهى من الكأس قال بانه جيد.
ومنذ تلك الليلة بات لي موعد خاص مع "الفيجيلانت" في مداومته الليلة حيث نشرب الشاي.. وانتشرت قصة الشاي في السنتر حتى بات الجميع يشربه، وفتح لي القلوب المغلقة، وبت صديقا للجميع، وسهلت الإقامة والاوراق، بل انني ذهبت الى اسبانيا منذ اشهر لأجلب مواعينا أرسلت لي مع تاجر سيارات موريتاني واهديتها لمسؤول في ادارة اللجوء والهجرة في لشبونه.. وخطيبتي تقول انه علينا فتح صالون خاص في لشبونه للشاي الموريتاني، ستكون التكاليف زهيدة والربح متوقع.
ظل محمودو جالي يحكي عن الشاي حتى صافحني عند باب المحطة.. مودعا مع ابتسامة لا أنساها..
قلت له وانا انزل الدرج رافعا صوتي كي يسمع: من اين تحصل على الشاي الموريتاني والنعناع في البرتغال..؟
رد بصوت لطيف: انه يباع في الخارج أكثر مما يباع في موريتانيا.. فقط يلزمه حنكة.

ليست هناك تعليقات: