ولد صلاحي: الليالي الأخيرة مع دداهي ومع بعوض إدارة الأمن :بينما أتمعن النظر في وجه المحقق المتطاير شررا قلت بنبرة أكثر حدة: أنتم أتعبتموني كثيرا واعتقلتموني، وجاء الأمريكان وحققوا معي وبرؤوني، ومع أنني أتفهم إزعاج
الأمريكان من هجمات الحادي عشر، إلا أنني لا أفهم إصراركم على توقيفي مرات عديدة. نظر إلي وقسمات وجهه تخفي كل وقال: أعطني هاتفك الشخصي وسنتعاون معك. لم يكن المفوض يعلم سبب اعتقاله، بل كنت أنا الذي أعلم أنني بريء أكثر معرفة منه ، فالقضية بأمر من الرئيس لمدير الأمن العام، الرئيس الحالي (يقصد اعلي ولد محمد فال كان رئيسا وقت تأليف الكتاب) وقد أمر الأخير مدير أمن الدولة الذي كان خارج البلاد وذلك قام بتكليف مفوضين صغار. بل كان الملف محصورا على رجلين في الدولة الموريتانية هما الرئيس الموريتاني ومدير أمن الدولة.. أمريكا المستهترة بموريتانيا طلبت منها تسليم مواطن إلى دولة أخرى، وكان من المفروض أن تطلب الدولة الموريتانية من أمريكا دليلا واحدا يدينني ولن تستطيع ذلك إطلاقا لأنني أعلم براءتي، والغريب أن دولتي كندا وألمانيا قامتا بتزكيتي لأمريكا أما وطني فلم يطلب دليلا ولم يشهد لي بل شهد علي.. وعلى كل حال سلمت هاتفي للمفوض وهو يلتفت إلى الحراس ويوصيهم علي وتركني معهم، لأول يوم أفطر مع حراس السجن خارج عائلتي.. عمال السجن في موريتانيا يمكن أن يصادقوك ويمكن أن يقتلوك إن أمروا بذلك، لكنهم في الغالب كانوا متعاطفين وأصدقاء كان أحدهم يتحدث إلي ويقول إنه ينوي طلاق زوجته المتمردة عليه والمستاءة من قلة راتبه، وكنت أنصحه أن لا يفعل وأن يبحث عن عمل آخر في أوقات الفراغ، وكان يتودد إلي ويتحدث معي حديث الأصدقاء أحيانا شأنه شأن الحراس الذين يطمئنونني أنني سأعود قريبا إلى حضن أمي.. كانت ليلتنا الأولى في إدارة أمن الدولة ليلة ليلاء.. وكان البعوض يتغذى على جسدي ويلسع أطرافي لسعا من كل مكان، وكان بحوزتنا جهاز مذياع نسمع فيه الأخبار، وأغرب ما في تلك الليلة أن المفوض يخرج إلي رأسه وينظر إلي نظرة خاطفة تنبئ أن هناك شيئا ما تخبئه الأيام، ثم يختفي فجأة بعد تلك النظرة. بعد أيام عاد مدير أمن الدولة [دداهي ولد عبد الله] إلي وحياني من داخل محبسي فرددت عليه: لماذا أنا هنا؟ رد علي بجواب غريب: نحن لم نوقد النار بعد!! تسارعت في داخلي ردود فعل غريبة على هذه الجملة "لم نوقد النار بعد" فلماذا هذه الكلمات؟ وماذا تخفي وراءها؟ فالرجل القادم لتوه يبدو شاحب الوجه كريه المنظر، ماذا قسماته لا تنبئ بخير؟ أحاول أن أقرأ تقاسيم وجهه فأعجز وأترك للأعضاء تترجم تلك النظرات، ثم تعجز هي الأخرى وترتبك فيصيبني دوار سيمنعني من تناول الطعام والشراب فلن أذوق النوم بعد تلك الكلمات الغريبة، وتتفاقم حالتي الصحية حتى يلجأ مدير أمن الدولة [دداهي ولد عبد الله] إلى استدعاء طبيب يقدم لي بعض العقاقير ويحذرني من الصوم.. تفاقمت حالتي الصحية وكانت الحكومة الموريتانية حينها تخشى أن تنتهي صلاحية التجارة الرخيصة قبل أن تسلم إلى الأمريكيين، أحاول أحيانا أن أستقيم واقفا فأسقط على الأرض، وأتناول الطعام والشراب متكفئا على قفاي.. قضيت ثمانية أيام بلياليها على هذا الحال، ولم يزرني فرد من العائلة وسأعلم لاحقا أن الأوامر جاءت لمنع أية زيارة. في يوم 28 نوفمبر أخبرني أحد الشرطة أنني سأرحل إلى الأردن، ومن المفارقات أن هذا اليوم الذي سترتكب فيه موريتانيا تلك الجريمة كان يوم استقلال موريتانيا، والقانون صريح بمنع تسليم المواطنين المجرمين إلى خارج البلاد أحرى أن يكون برءاء.. كان مدير أمن الدولة [دداهي ولد عبد الله] قد استدعي في حفل استقلال وحضر إلي الساعة الحادي عشر صباحا مع نائبه ومع كاتبه، لكن الأمر كان غريبا جدا، فاليوم يوم عطلة رسمية في موريتانيا. ورغم أنني كنت عاجزا عن الوقوف فإن وقع استدعائي جعلني أفرح وأحاول الوقوف وتتبع المدير لكنني سقطت على المقعد الخشبي عندما جلست عليه، كانت أوامر مدير أمن الدولة لجميع العمال أن يغادروا إلى منازلهم، إلا كاتبه الخاص ونائبه. ودعني الحراس جميعا بابتسامات هادئة قرأت فيها أن ساعة الإفراج عني قريبة كأنهم يهنئونني بالخروج، ولكن مكالمات المدير لا تعجبني وتدعوني إلى القلق. بعث [دداهي ولد عبد الله] نائبه إلى شنطة تحمل ملابس رثة، لكن الكاتب جلس عند الباب ونام على أحد الأسرة وخرج بي [دداهي] وقال لي سنسلمك إلى الأردن...!! ـ الأردن؟ الأردن ؟؟ ماذا قلت؟ الأردن !!!!!!!
يتواصل..
ترجمة: يحظيه ولد صلاحي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق